سوريا بين مطرقة الفوضى وسندان الاحتلال: قراءة في مشهد انهيار محور المقاومة…بقلم عمر ضمرة

الدرب نيوز- عمر ضمرة-
في ضوء الأحداث التي عصفت بسوريا والمنطقة، لا يمكن لأحد أن ينكر أن محور المقاومة قد تعرض لضربات قاسية، كانت أشبه برياح عاتية اقتلعت جذورًا ظن الكثير أنها ثابتة، أدت للهزمية وتفكيك المحور.
من التدخل الأمريكي والتركي إلى القصف الإسرائيلي، بات المشهد السوري شاهدًا على انهيار استراتيجيات وتفكك تحالفات، كان يعتقد أنها عصية على الاختراق.
ما حدث بعد وصول هيئة تحرير الشام إلى دمشق وإسقاط نظام بشار الأسد، هو نتيجة مخطط مدروس وضع بعناية بأيد أمريكية وصهيونية وتركية. تركيا، التي رأت في حزب العمال الكردستاني تهديدًا وجوديًا، لم تتردد في توظيف الجولاني وهيئته لتنفيذ أجنداتها.
لم تمر 48 ساعة حتى تحولت الأنظار من إسقاط النظام إلى قتال حزب العمال الكردستاني، بينما كانت إسرائيل تستغل الفوضى لتتقدم 14 كيلومترًا داخل الجولان، منهية اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974، دون أن تواجه أي مقاومة تذكر من المعارضة السورية، ولا حتى بيان تنديد.
لم يكن ضم الجولان السوري المحتل لإسرائيل مجرد خطوة عابرة، بل جزءًا من استراتيجية أشمل تهدف إلى رسم خارطة جديدة للمنطقة. هذه الخطوة، التي دعمتها إدارة ترامب، تزامنت مع تطورات دراماتيكية في سوريا، مما يجعل القضية الفلسطينية عرضة لمزيد من الضغوط في ظل انشغال الأطراف الإقليمية بالصراعات الداخلية.
في وقت كانت إسرائيل تعربد في الجولان وتقصف دمشق، ظهر أبو محمد الجولاني في الجامع الأموي، وكأن ما يحدث لا يعنيه. فيما سلط إعلام قاعدة “العيديد” الأنظار على سوريا، وظهرت “الفبركات” والمبالغات لإظهار ظلم نظام الأسد، وتوارت صورة غزة المحروقة.
الجولاني، الذي تحول من مطلوب على قوائم الإرهاب الأمريكية إلى ضيف مرحب به على شاشات CNN، أظهر تناقضًا صارخًا في مسيرته، فمن قائد لجبهة النصرة التي عرفت بتطرفها، إلى وجه سياسي جديد وزعيم لسوريا. لكن هل يمكن الوثوق بمن صنعته أيادي الأمريكيين والصهاينة ليكون بديلاً عن نظام الأسد؟
لم تكن الحرب الدامية التي خاضها محور المقاومة ضد إسرائيل في أكتوبر مجرد معركة عسكرية، بل اختبارًا لصلابة التحالفات الإقليمية. حزب الله اللبناني، الذي كان أول من ساند غزة، وجد نفسه أمام عدو لا يرحم، حيث طالت الاغتيالات قادته وتعرضت ترسانته لضربات مدمرة. إيران، الداعم الرئيسي للمحور، لم تسلم من الضربات الإسرائيلية التي أضعفت موقفها الاستراتيجي.
النظام السوري، رغم ديكتاتوريته، كان جزءًا من محور المقاومة، وحقق اكتفاءً ذاتيًا بعيدًا عن الاستدانة من البنك الدولي. لذلك، كان لا بد من استهدافه عبر تحالف قوى الرأسمالية العالمية مع تركيا، بما يخدم أجندات أحفاد روتشيلد وروكفلر.
عندما جاءت التنظيمات الإرهابية مثل داعش والنصرة إلى سوريا بدعم أمريكي وتركي وإسرائيلي، كان واضحًا أن دورها لن يتجاوز تنفيذ أجندات القوى الكبرى. فعلى المدى الطويل، هذه التنظيمات ليست سوى أدوات تستخدم لمرة واحدة، ثم يتم التخلص منها عبر صراعات داخلية.
اليوم، تضم هيئة تحرير الشام ما يزيد على خمسة وثلاثين جبهةً وفصيلاً، إذ أن الانقسامات الداخلية تجعل الاستقرار مستحيلاً. ومع تزايد المؤشرات على اقتتال داخلي قادم، يبقى حلم سوريا الموحدة والمستقلة بعيد المنال.
ما يحدث اليوم في سوريا والمنطقة ينسجم مع سيناريو “الفوضى الخلاقة”، الذي دعت إليه كونداليزا رايس. تدمير البنى التحتية، بث الفوضى، والسيطرة على منابع النفط والغاز، كلها أهداف تتماشى مع رؤية برنارد لويس لتفتيت الشرق الأوسط.
شهدت المنطقة العربية خلال العقد الأخير تحولات جذرية، كشفت عن وجه جديد للاستعمار، استعمار لا يتجسد بجيوش جرارة ودبابات، بل باستراتيجيات أكثر خبثًا وأقل تكلفة، تسعى لتدمير الدول الوطنية وتحويلها إلى ساحات صراع بين مليشيات وتنظيمات.
نموذج “اللادولة الوطنية” لا يقتصر على نهب الثروات، بل يهدف أيضًا إلى السيطرة على المواقع الجغرافية الحيوية، مثل قناة السويس والممرات اللوجستية. فقد أدرك الاستعمار الرأسمالي أن من يسيطر على هذه النقاط الاستراتيجية، يمتلك ميزة عسكرية واقتصادية حاسمة في أي مواجهة عالمية.
في عصرنا الحديث، لم تعد الحروب تعتمد على غزو الجيوش التقليدية، بل تحولت إلى حروب هجينة، تتقدمها مليشيات ومرتزقة مدعومة من قوى خارجية. يضاف إلى ذلك تحريض الشارع ضد مؤسسات الدولة الوطنية، وبث الفوضى التي تعرف بـ”الفوضى الخلاقة”.
هذه الحروب تستهدف تدمير الاقتصاد، وتفكيك المؤسسات الأمنية، وبث الفوضى، وفرض تبعية سياسية واقتصادية للدول المستهدفة، بحيث تبقى رهينة للبنك الدولي ومؤسسات التمويل الغربية. وقد أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صراحة عندما هدد الدول العربية المنضمة إلى مجموعة “بريكس”، مثل مصر والسعودية والإمارات، بفرض تعريفات جمركية بنسبة 100% إذا استبدلت الدولار بعملات أخرى.
ما تشهده المنطقة اليوم هو إعادة إنتاج لسيناريوهات استعمارية قديمة، لكن بأساليب جديدة. حروب الوكلاء، استهداف الاقتصاد، وتفكيك الدول من الداخل، كلها أدوات تستخدم لإبقاء الدول ضعيفة وتابعة.
في هذا السياق، يصبح من الضروري أن تدرك الشعوب أن معركتها الرئيسية، ليست فقط مع التنظيمات الإرهابية أو الأنظمة الفاسدة، بل مع نظام عالمي رأسمالي متوحش، لا يريد لها إلا أن تبقى غارقة في الديون والفوضى.
في أروقة السياسة الدولية، تتحرك أجندات تستهدف تغيير ملامح الشرق الأوسط، حيث تتصدر القضية الفلسطينية مشهد التحولات الكبرى. في ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأولى، ظهرت ملامح مخطط يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية “صفقة القرن”، عبر سلسلة إجراءات تهدد ليس فقط الفلسطينيين، بل الدول المجاورة أيضًا.
ضمن هذا المخطط، تسعى الولايات المتحدة إلى ضم شمال ووسط غزة إلى إسرائيل، وتهجير جزء من سكانها إلى سيناء عبر ضغوط أمريكية على نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. وعلى الجانب الآخر، سيتم تقليص مساحة الضفة الغربية إلى حد يجعلها أشبه بجيوب متناثرة عديمة السيادة، مع تهجير قسري لعدد من سكانها إلى الأردن في إطار ما يسمى بـ”الوطن البديل”، في خطوة تهدف إلى تقليص مساحة الدولة الفلسطينية المحتملة، وزيادة مساحة الكيان الصهيوني، كما صرح ترامب.
في ظل هذا المخطط، يبرز التساؤل الحاسم: هل ستقبل مصر والأردن بهذا السيناريو الذي تريده إسرائيل وأمريكا؟
بالنسبة لمصر، يتمحور التحدي حول سيناء، التي تمثل خطًا أحمر بالنسبة للأمن القومي المصري. إذ إن التنازل عن جزء منها لإيواء سكان غزة لا يهدد فقط السيادة المصرية، بل يعرض المنطقة لتوترات أمنية خطيرة. أما الأردن، فإن قبولها بفكرة الوطن البديل يعني القضاء على هويتها الوطنية وإدخالها في دوامة لا نهاية لها من الصراعات الاجتماعية والسياسية.
إذا رفضت مصر والأردن هذا السيناريو، فالثمن قد يكون ضغوطًا اقتصادية وسياسية غير مسبوقة. فمن المتوقع أن تستخدم القوى الدولية أوراقًا مثل المساعدات الاقتصادية والضغوط الدبلوماسية، وربما حتى زعزعة الاستقرار الداخلي.
لكن قبول هذا المخطط يعني الانتحار السياسي للدولتين، حيث ستفقدان مكانتهما الإقليمية وسيادتهما الوطنية، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات لا يمكن السيطرة عليها.
ما يجري اليوم ليس تهديدًا للشعب الفلسطيني وحده، بل لكل الدول العربية. المخطط ليس سوى جزء من مشروع أكبر لتفكيك المنطقة وتحويلها إلى كيانات هشة، خاضعة للهيمنة الإسرائيلية والأمريكية.
لذا، فإن مواجهة هذا السيناريو تتطلب موقفًا عربيًا موحدًا وشعوبًا تدرك أن المعركة ليست فقط على الأرض، بل على الوجود والكرامة.